فصل: تفسير الآيات (124- 128):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (118- 123):

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}
{وعلى الذين هادوا} يعني اليهود {حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} يعني ما سبق ذكره وبيانه في سورة الأنعام وهو قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} الآية: {وما ظلمناهم} يعني بتحريم ذلك عليهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} يعني إنما حرمنا عليهم ما حرمنا بسبب بغيهم وظلمهم أنفسهم ونظيره قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم. وقوله تعالى: {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة} المقصود من هذه الآية بيان فضل الله وكرمه وسعة مغفرته ورحمته، لأن السوء لفظ جامع لكل فعل قبيح فيدخل تحته الكفر وسائر المعاصي وكل ما لا ينبغي وكل من عمل السوء فإنما يفعله بجهالة، لأن العاقل لا يرضى بفعل القبيح فمن صدر عنه فعل قبيح من كفر أو معصية، فإنما يصدر عنه بسبب جهله إما لجهله بقدر ما يترتب عليه من العقاب أو لجهله بقدر من يعصيه، فثبت بهذا أن فعل السوء إنما يفعل بجهالة ثم إن الله تعالى وعد من عمل سوءاً بجهالة ثم تاب، وأصلح العمل في المستقبل أن يتوب عليه ويرحمه وهو قوله تعالى ثم تابوا من بعد ذلك، يعني من بعد عمل ذلك السوء {وأصلحوا} يعني أصلحوا العمل في المستقبل، وقيل معنى الإصلاح الاستقامة على التوبة {إن ربك من بعدها} يعني من بعد عمل السوء بالجهالة والتوبة منه {لغفور} يعني لمن تاب وآمن {رحيم} يعني بجميع المؤمنين والتائبين. قوله سبحانه وتعالى: {إن إبراهيم كان أمة} حكى ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة وفلان علامة ونسابة يقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه به. والعرب توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد كقوله تبارك وتعالى: {فنادته الملائكة} وإنما ناداه جبريل وحده، وإنما سمي إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمة لأنه اجتمع فيه من صفات الكمال وصفات الخير الأخلاق الحميدة ما اجتمع في أمة. ومنه قول الشاعر:
ليس على الله بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحد

ثم للمفسرين في معنى اللفظة أقوال أحدها: قول ابن مسعود: الأمة معلم الخير يعني أنه كان معلماً للخير يأتّم به أهل الدنيا. والثاني قال مجاهد: إنه كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار فلهذا المعنى كان أمة واحدة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل «يبعثه الله أمة واحدة» وإنما قال فيه المقالة لأنه كان فارق الجاهلية وما كانوا عليه من عبادة الأصنام. والثالث قال قتادة: ليس من أهل دين إلا وهم يتلونه ويرضونه، وقيل: الأمة فعلة بمعنى مفعولة، وهو الذي يؤتم به وكان إبراهيم عليه السلام إماماً يقتدى به دليله قوله سبحانه وتعالى: {إني جاعلك للناس إماماً} وقيل إنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ومن تبعه ممتازين عمن سواهم بالتوحيد لله والدين الحق وهو من باب إطلاق المسبب على السبب، وقيل: إنما سمي إبراهيم عليه السلام أمة لأنه قام مقام أمة في عبادة الله {قانتاً لله} يعني مطيعاً لله وقيل هو القائم بأوامر الله {حنيفاً} مسلماً يعني مقيماً على دين الإسلام لا يميل عنه ولا يزول. وهو أو من اختتن وضحّى، وأقام مناسك الحج {ولم يك من المشركين} يعني أنه عليه السلام كان من الموحدين المخلصين من صغره إلى كبره {شاكراً لأنعمه} يعني أنه كان شاكراً لله على أنعمه التي أنعم بها عليه {اجتباه} أي اختاره لنبوته واصفطاه لخلته {وهداه إلى صراط مستقيم} يعني هداه إلى دين الإسلام لأنه الصراط المستقيم والدين القويم {وآتيناه في الدنيا حسنة} يعني الرسالة والخلة. وقيل: هي لسان الصدق والثناء الحسن والقبول العام في جميع الأمم فإن الله حببه إلى جميع خلقه فكل أهل الأديان يتلونه المسلمون واليهود والنصارى، ومشركو العرب وغيرهم، وقيل: هو قول المصلي في التشهد: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وقيل إنه آتاه أولاداً أبراراً على الكبر {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} يعني في أعلى مقامات الصالحين في الجنة. وقيل: معناه وإنه في الآخرة لمن الصالحين يعني الأنبياء في الجنة فتكون من بمعنى مع ولما وصف الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الشريفة العالية، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه سلم باتباعه فقال تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم} يعني دينه وما كان عليه من الشريعة والتوحيد. قال أهل الأصول: كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ منها وما لم ينسخ صار شرعاً له، وقال أبو جعفر الطبري أمره باتباعه في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام وهو قوله: {حنيفاً} مسلماً {وما كان من المشركين} تقدم تفسيره.

.تفسير الآيات (124- 128):

{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}
وقوله تعالى: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} يعني إنما فرض تعظيم السبت على الذين اختلفوا فيه وهم اليهود. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أمرهم موسى بتعظيم يوم الجمعة فقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً فاعبد وه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئاً من صنعتكم وستة أيام لصنعتكم، فأبوا عليه وقالوا لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق، وهو يوم السبت فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضاً بيوم الجمعة. فقالت النصارى لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا يعنون اليهود فاتخذوا الأحد فأعطى الله عز وجل الجمعة لهذه الأمة فقبلوها، فبورك لهم فيها.
(ق) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا فاختلفوا فيه، وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له فهم لنا فيه تبع فغداً لليهود، وبعد غد للنصارى» وفي رواية لمسلم «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أو من يدخل الجنة» وفي رواية أخرى له قال: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم لنا تبع يوم القيامة نحن الآخرون في الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق» قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم: قال العلماء في معنى الحديث: نحن الآخرون في الزمان والوجود السابقون في الفضل ودخول الجنة فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم. وقوله بيد أنهم يعني غير أنهم أو إلا أنهم. وقوله فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له قال: القاضي عياض الظاهر أنهم فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم لإقامة شرائعهم فيه، فاختلف أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله له وفرضه على هذه الأمة مبيناً، ولم يكلهم إلى اجتهادهم ففازوا بفضيلته قال: يعني القاضي عياضاً وقد جاء أن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة، وأعلمهم بفضله فناظروه أن السبت أفضل. فقيل له دعهم. قال القاضي: ولو كان منصوصاً عليه لم يصح اختلافهم فيه بل كان يقول: خالفوه فيه. قال الشيخ محيي الدين النووي: ويمكن أن يكونوا أمروا به صريحاً ونص على عينه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه، وغلطوا في إبداله. قال الإمام فخرالدين الرازي في قوله تعالى: {على الذين اختلفوا فيه} يعني على نبيهم موسى، حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت فاختلافهم في السبت كان اختلافاً على نبيهم في ذلك اليوم، أي لأجله وليس معنى قوله اختلفوا فيه أن اليهود اختلفوا، فمنهم من قال بالسبت، ومنهم من لم يقل به، لأن اليهود اتفقوا على ذلك.
وزاد الواحدي على هذا فقال: وهذا مما أشكل على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم: معنى الاختلاف في السبت أن بعضهم قال: هو أعظم الأيام حرمة لأن الله فرغ من خلق الأشياء، وقال الآخرون بل الأحد أفضل لأن الله سبحانه وتعالى، ابتدأ فيه بخلق الأشياء، وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فريقين في السبت، وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان طويل. فان قلت إن اليهود إنما اختاروا السبت، لأن أهل الملل اتفقوا على أن الله خلق الخلق في ستة أيام وبدأ الخلق والتكوين في يوم الأحد، وتم الخلق يوم الجمعة وكان يوم السبت يوم فراغ فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك العمل في هذا اليوم، فاختاروا السبت لهذا المعنى وقالت النصارى: إنما بدأ بخلق الأشياء في يوم الأحد فنحن نجعل هذا اليوم عيداً لنا، وهذان الوجهان معقولان فما وجه فضل يوم الجمعة حتى جعله أهل الإسلام عيداً؟ قلت: يوم الجمعة أفضل الأيام لأن كمال الخلق وتمامه كان فيه وحصول التمام والكمال يوجب الفرح والسرور فجعل يوم الجمعة عيداً بهذا الوجه وهو أولى. ووجه آخر وهو أن الله عز وجل خلق فيه أشرف خلقه، وهو آدم عليه السلام وهو أبو البشر وفيه تاب عليه فكان يوم الجمعة أشرف الأيام لهذا السبب، ولأن الله سبحانه وتعالى اختار يوم الجمعة لهذه الأمة وادخره لهم ولم يختاروا لأنفسهم شيئاً، وكان ما اختاره الله لهم أفضل مما اختاره غيرهم لأنفسهم، وقال بعض العلماء: بعث الله موسى بتعظيم يوم السبت ثم نسخ بيوم الأحد في شريعة عيسى عليه السلام ثم نسخ يوم السبت، ويوم الأحد بيوم الجمعة في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فكان أفضل الأيام يوم الجمعة كما أن محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء. وفي معنى الآية قول آخر قال قتادة: الذي اختلفوا فيه اليهود استحله بعضهم، وحرمه بعضهم فعلى هذا القول يكون معنى قوله إنما جعل السبت أي وبال السبت ولعنته على الذين اختلفوا فيه، وهم اليهود فأحله بعضهم فاصطادوا فيه فلُعنوا ومسخوا قردة وخنازير في زمن داود عليه السلام، وقد تقدمت القصة في تفسير سورة الأعراف وبعضهم ثبت على تحريمه، فلم يصطد فيه شيئاً وهم الناهون والقول الأول أقرب إلى الصحة. وقوله تعالى: {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} يعني في أمر السبت فيحكم الله بينهم يوم القيامة فيجازي المحقيين بالثواب المبطلين بالعقاب.
قوله عز وجل: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} يعني ادع إلى دين ربك يا محمد، وهو دين الإسلام بالحكمة يعني بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة والموعظة الحسنة، يعني وادعهم إلى الله بالترغيب والترهيب وهو أنه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصد ما ينفعهم {وجادلهم بالتي هي أحسن} يعني بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة في الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف. وقيل: إن الناس اختلفوا وجعلوا ثلاثة أقسام: القسم الأول هم العلماء والكاملون أصحاب العقول الصحيحة والبصائر الثاقبة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها، فهؤلاء المشار إليهم بقوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} يعني ادعهم بالدلائل القطيعة اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها حتى ينتفعوا وينفعوا الناس وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم. القسم الثاني: هم أصحاب الفطرة السليمة، والخلقة الأصيلة وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حدّ الكمال، ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوساط الأقسام، وهم المشار إليهم بقوله: {والموعظة الحسنة} أي ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة. القسم الثالث: هم أصحاب جدال وخصام ومعاندة، وهؤلاء المشار إليهم بقوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه. وقيل: المراد بالحكمة القرآن يعني ادعهم بالقرآن الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وقيل: المراد بالحكمة النبوة أي ادعهم بالنبوة والرسالة والمراد بالموعظة الحسنة الرفق واللين في الدعوة، وجادلهم بالتي هي أحسن أي أعرض عن أذاهم ولا تقصر في تبليغ الرسالة، والدعاء إلى الحق فعلى هذا القول قال بعض علماء التفسير: هذا منسوخ بآية السيف {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} يعني إنما عليك يا محمد تبليغ ما أرسلت به إليهم ودعاؤهم بهذه الطرق الثلاثة وهو أعلم بالفريقين الضال والمهتدي فيجازي كل عامل بعمله قوله سبحانه وتعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} نزلت هذه الآية بالمدينة في سبب شهداء أحد وذلك أن المسليمن لما رأوا ما فعل المشركون بقتلى المسلمين يوم أحد من تبقير البطون، والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن أبي عامر الراهب، وذلك أن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك: لئن أظهرنا الله عليهم، لنربين على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد. ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وآذانه وقطعوا مذاكيره، وبقروا بطنه وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تنزل في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أما إنها لو أكلتها لم تدخل النار أبداً حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار» فلما نظر رسول الله إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحمة الله عليك فإنك ما علمنا ما كنت إلا فعّالاً للخيرات، وصولاً للرحم ولو كان حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك» فأنزل الله عز وجل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نصبر وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه» عن أبي بن كعب قالك لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم فقال الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم. قال: فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله عز وجل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} فقال رجل: لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفروا عن القوم إلا أربعة» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب وأما تفسير الآية فقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة في الكلام، والمعنى إن صنع بكم سوء من قتل أو مثلة ونحوها، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه فهو كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} أمر الله برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية في باب استيفاء الحقوق. يعني: إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقتصوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله وشرعه ورحمته، وفي الآية دليل على أن الأولى ترك استيفاء القصاص وذلك بطريق الإشارة والرمز والتعريض، بأن الترك أولى فإن كان لابد من استيفاء القصاص فيكون من غير زيادة عليه بل يجب مراعاة المماثلة ثم انتقل من طريق الإشارة إلى طريق التصريح فقال تعالى: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} يعني ولئن عفوتم، وتركتم استيفاء القصاص وصبرتم كان ذلك العفو، والصبر خيراً من استيفاء القصاص وفيه أجر للصابرين والعافين.
فصل:
اختلفت العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا، على قولين: أحدهما أنها نزلت قبل براءة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد وهذا قول ابن عباس والضحاك، فعلى هذا يكون معنى قوله ولئن صبرتم عن القتال، فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد، ونسخ هذا بقوله: {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية، القول الثاني: أنها أحكمت، وأنها نزلت فيمن ظلم ظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال منها الظالم وهذا قول مجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والثوري.
قال بعضهم: الأصح أنها محكمة لأن الآية واردة في تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق وفي القصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة فلا تعلق لها بالنسخ والله أعلم. قوله عز وجل: {واصبر وما صبرك إلا بالله} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر، وأعلمه أن صبره بتوفيقه ومعونته {ولا تحزن عليهم} يعني على الكافرين، وإعراضهم عنك وقيل: معنى الآية ولا تحزن على قتلى أحد وما فعل بهم فإنهم أفضوا إلى رحمة الله ورضوانه {ولا تك في ضيق مما يمكرون} يعني: ولا يضيقن صدرك يا محمد بسبب مكرهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم. قرئ في ضيق بفتح الضاد وكسرها، فقيل لغتان. وقال أبو عمر: والضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة، وقال أبو عبيدة الضيق بالكسر في قلة المعاش وفي المسكين وإما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح، وقال القتيبي: الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين فعلى هذا يكون صفة كأنه قال سبحانه وتعالى: {ولا تك في أمر ضيق من مكرهم}.
قال الإمام فخر الدين الرازي: وهذا الكلام من المقلوب، لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى لا يكن الضيق حاصلاً فيك إلا أن الفائدة في قوله: {ولا تك في ضيق} هي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل جانب، كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ بهذا المعنى {إن الله مع الذين اتقوا} أي اتقو المثلة والزيادة في القصاص وسائر المناهي {والذين هم محسنون} يعني بالعفو عن الجاني، وهذه المعية بالعون والفضل والرحمة يعني إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل والرحمة، فكن من المتقين المحسنين، وفي هذا إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. قال بعض المشايخ: كمال الطريق صدق مع الحق، وخلق مع الخلق وكمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به، وقيل لهرم ابن حيان عند الموت: أوص. فقال: إنما الوصية في المال ولا مال لي، ولكني أوصيك بخواتيم سورة النحل. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.